Ahmed عضو مجتهد
المهنة : الدولة : عدد المساهمات : 103 تاريخ التسجيل : 11/11/2009 العمر : 29
| موضوع: حوار بين الشيطان وضيوف الرحمن الخميس ديسمبر 24, 2009 3:30 am | |
| في لحظات نادرة من حياة إبليس التي تمتد من قبل بدء الخليقة إلى ما شاء الله عز وجل، قرر الشيطانُ أن يتجسد ويشاهد بنفسه راجميه في موسم الحج، ويتعرض لقذف ملايين من ضيوف الرحمن وكل منهم يلقي الحصى وكأنه الوحيد الذي سيصيب ملك العصاة في مقتل.
كان إبليس يجلس متكوما، ويَخرج من رأسه قرنان، ومن عينيه شرر يتطاير، ومن جسده بركان هائل من الغضب يعبر عنه وجه أحمر مشرب بسواد خفيف فلا يدري المرء إن كان مصنوعا من دم أم من جمرات من جحيم سَعَر. فجأة ظهر في الأفق جمعٌ غفير من رجال ونساء يرتدون ثياب الإحرام البيضاء النظيفة على الرغم من الأتربة والغبار الذي تدفع به رياح صحراوية تأتي من كل مكان. تقترب الجموع وفي يد كل واحد منهم شيء يخفيه ويطبق عليه بشدة كأنه يخشى أن يفقده ويزول معه غضبه على الشيطان الذي أغواه وزين له الكثير من الذنوب والسيئات فعصى ربه، ومنهم من أرهق إبليسَ برفضه الغواية، وتحدّيه كل وساوس الشيطان، فلم يسرق أو يقتل أو يزني أو يفسد أو يرتشي أو يكذب أو يشرك بالله. بدأ الشيطان وهو ينظر متفحصا الوجوه الغاضبة المتجهة إليه يتعرف على كثير من أصدقائه ومحبيه وعاشقيه وهم يندسون بين المتقين وخصومه وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، والذين قال إبليس لربه فيهم: لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين. وبدأ رمي الجمرات، وتساقطت على الشيطان من كل مكان، ومع كل حصاة تنفجر صيحة غضب فهي تكبير من المسلم التقي، وهي لوم وعتاب من المسلمين الذين لم يرفضوا لإبليس طلبا أو غواية فكانوا يلبون ويستجيبون قبل أن ينتهي من وسوسته!
بدأ إبليس يستعيد قوته وثقته في نفسه، ويستعد لحوار مع راجميه فوقعت عيناه على رجل طويل أشيب الشعر كان الشيطان قد رآه سبع مرات من قبل في نفس المكان، فسأله قبل أن يَهُمَ الحاجُ برمي الحصاة الكبيرة:لماذا تأتي للمرة السابعة وأنت تعلم أنك تسرق مكان مسلم آخر، فالنسبة المئوية مقارنة بعدد السكان هي واحد في الألف؟ كان السؤال مفاجئا، وارتبك الرجل الأشيب ثم قال لابليس وهو يلعنه: لأنني أريد أن أعود كما ولدتني أمي طاهرا من كل الذنوب! فضحك الشيطان ضحكة مدوية سمع الحجاجُ صداها في أركان المكان كله، وقال له: تريد أن تتوب وتجعلني أنا أتحمل عنك وزرك وذنوبك وضعفك وكل جرائمك؟ هل أنا وسوست لك بأن تغش في المواد التي تستوردها لمصنعك؟ ألم تتبرع أنت بالرشوة في الجمرك، وتأكل حقوق العمال، ولا تدفع تأمينا ضد الحوادث، وبعض العاملين في مصنعك لم يحصلوا على عطلة منذ شهرين وقد رفضت أنت طلبا تقدموا به للحصول على حقوقهم؟ ومع ذلك تتوب للمرة السابعة، ثم تعود ظنا منك أن الرشوة تنسحب أيضا على السماء! إنني بريء منك إلى يوم القيامة. وقبل أن يسمع الشيطانُ دفاع الرجل لمح بالقرب منه رجلا نصف أصلع يتوسط وجهَه أنفٌ كبيرٌ مفلطحٌ وقبل أن يدير ظهرَه بعدما رمى الحصاةَ الأخيرة وأصابت الأذن اليمني لابليس ناداه قائلا: أما أنت فمكانك الطبيعي هنا بجواري. ألست صاحبَ أربعة مكاتب لاستقدام العمالة لدولة خليجية؟ ألم تساهم في توسعة نطاق الظلم عندما كان المساكين يلجئون إليك هربا من ظلم الكفيل فتردهم إليه، أو تجبرهم على دفع مرتب ثلاثة أشهر؟ ألم تكن تعرف أن العقد الذي وقعه العامل المسكين أو الفتاة الصغيرة لو كنت أنا، الشيطان، مكانك لرق قلبي لهؤلاء الأبرياء الذين تدفع بهم إلى بطن كفيل أكثر نهما من الوحوش الكاسرة؟ وحاول حاج آخر أن يدافع عنه فصاح إبليس في وجهه: أغرب عن وجهي أيها الرجل فأنت لا تختلف عنه، ولديك في مصنعيك الاثنين وبيتك ومزرعتك عشرات من العمال والخدم ليس لهم حقوق الحشرات التي تسكن المجاري! ألم ترفض استجداء من أحدهم أن يركن إلى الراحة يومين أو ثلاثة بعدما أصابته حمى قاتلة، وطلبت منه أن يختار بين العمل مريضا أو الترحيل تفنيشا في أول طائرة؟ انسحب الرجلان معا في زحام ملاييني، وابتسم إبليس فجاءته من خلفه ضربة حصاة جمعت في قوتها غضبا هائلا، فنظر إلى مصدرها وهاله ما رأى، امرأة جميلة في منتصف العقد الرابع يُخرج لسانها حمماً من الألفاظ الغليظة تلعن الشيطان إلى يوم الدين. صاح إبليس في وجهها: كنت أعرف قبل أن أدير رأسي أنك صاحبة هذه الحصاة الغاضبة، وكم وددت أن أكون أنا راجمك! ألم تحيلي حياة أسرتك إلى جحيم بسبب مطالبك المستمرة والتعجيزية من زوج لا يعرف إلا محاولات ارضائك؟ هل لديك اهتمامات جدية بالحياة والقيم والمباديء والمحبة؟ ألم يمتلىء كل يوم من أيام زواجك بالغيبة والنميمة والايقاع بين زوجك وأسرته وبث روح الكراهية في البيت والصياح من الصباح إلى الليل؟ لقد عرفت الأمراض النفسية طريقها بسهولة لأولادك الثلاثة بسبب تهورك وغبائك وبيئة الحرب التي صنعتيها في بيت كان من المفترض أن يتحول إلى سكن للملائكة. وكانت النتيجة أن الرجل بدأ يبحث في الخارج عما افتقده في البيت الجحيم. لم تستطع المرأة أن ترد، وهنا شاهد إبليس حركة غير عادية بدت كأنها حراس يتجمعون حول شخصية هامة. ظهر الرجل ولم يعرفه الشيطان للوهلة الأولى، فأعاد الكَرّةَ ولشدة ما كانت دهشته عندما عرفه بلحمه وشحمه وابتسامته الصفراء الخارجة من رحم قسوة لم تخفها ملابس الاحرام الأكثر بياضا مما حولها. إنه زعيم عربي تتزلزل الأرض من تحت أقدامه، وتنحني الرؤوس أمامه، وتتقوص الظهور إن أطال اصحابها السير خلفه. التقت نظرات الاثنين في وقت واحد فلم ينتظر إبليس رمي الحصاة الأولى وانحنى ليلتقط أكبر واحدة على الأرض ويقذفها في وجه الزعيم العربي المبجل. خيم وجوم عجيب على وجه القائد وسمع الشيطان يصرخ في وجهه قائلا: أيها اللعين، ألم تخجل من ارتداء هذه الملابس ولو عَرَفَتْ خيوطُها أنك صاحبها لفَرّتْ من جسدك دون أن تأبه لسوءاتك؟ تريد أن ترجمني وفي نفس الوقت تُكَبّر باسم الله العزيز الجبار؟ لماذا لم تتذكر أن اللّهَ أكبر وفي سجونك ومعتقلاتك الرهيبة آلاف الأبرياء الذين حرَمْتَهم من الحرية وأحضان الأولاد ودفء البيت وحنان العائلة والحياة اليومية في وطن يحتاج إليهم أكثر مما يحتاجون إليه؟ لو نطقتْ جدرانُ قَصّرِك بما سمعتْ وشاهَدَتْ لارتبكت السماوات السبع واهتزت المجرّات وزلزلت الأرض بعض زلزالها! كانت تقارير التعذيب والاغتصاب والانتهاك وسلخ جلود مواطنيك وتعليق رعاياك من أرجلهم في أقسام الشرطة وأقبية أجهزة حمايتك تأتيك بانتظام، وتتكدس فوق مكتبك، وتتكوم أمام ناظريك وأنت تبتسم ولا يتحرك ضميرك وإيمانك لتوُقف جزءا ولو يسيرا من جرائمك. لم أوسوس لك بكل ذنوبك وخطاياك، لكنك كنت تتبرع بقسوة وغلظة وكراهية لمواطنيك كأنك منافس لي، أو إبليس متجسدا في صورة زعيم عربي. أهدرتَ أموالَ شعبك، ومارستَ الاستبداد، وجمعتَ حولك منافقين، ورفعتَ من شأن المتزلفين، وفرّطتَ في استقلال وطنك، ومَيّزْت بين مواطنيك، وجعلتَ أسرَتَك وعائلتك فوق أبناء شعبك. تلعثم الزعيم لأول مرة، وحاول أن ينظر في عينيّ الشيطان فلم تطاوعه نظراته خجلا وعارا، ثم قال له: لكنك طلبت مني أن أقوم بحماية نفسي، وزينت لي رجالي، وأوعزت إليهم بالتقرب مني وزيادة جرعات التزلف والنفاق فضعفتُ أمامهم. ثم أردف الزعيم قائلا: لقد ظننت أنني الحاكم بأمره فاكتشفت صناعة آلاف من الطغاة الصغار، فلما كبروا أصبحت علاقتي بهم مثل قملة الدرفين، هو يحميها وهي تنظف له جسده! فقاطعه إبليس صارخا: هل طلبتُ منك أن تقوم بتزييف إرادة شعبك؟ ألم تمر عليك في حياتك مئات المرات التي جلستَ فيها وحيدا تتأمل، ويأتيك طيف السماء، وتقترب منك الملائكة مترددة في مصافحتك، وتقرأ كتاب الله، وتصلي أمام الناس، ويطل عليك بين ألفينة والأخرى ضميرك يستجديك أن تتوقف عن إرهابك رعاياك المساكين، لكنك كنت عنيدا ومتغطرسا ومتكبرا ومغرورا؟ لو جلستَ مكاني واستبدلت بهؤلاء الحجاج أفراد شعبك كله لما تردد منهم إلا قلة نادرة عن رجمك حتى لو تكومت أنا بجوارك! تريد أن تتوب وتعود كما ولدتك أمك ، لكنك تعرف كما أعرف أنا أنك كاذب، بل إن وسوستي لك حتى قبل وصولك مطار بلدك لا تحتاج مني لجهد أو محاولات اقناع, أما دعاؤك إلى الله، العزيز الوهاب، بالمغفرة فلن يصل إلى السماء الثالثة أو الرابعة قبل أن يصطدم بدعوات آلاف من المظلومين والمقهورين والمقموعين والمُعَذَبين ظلما وزورا وبهتانا في معتقلاتك الكثيرة التي دنست الأرض الطيبة.
وهنا بادر أحد مرافقي الزعيم مستعرضا عضلاته وهَمّ بالوثوب ليقتص لزعيمه من إبليس، فبادره مَلكُ العصاة قائلا: ثكلتك أمُك أيها النذل.ألست أنت الذي وشى بالكثيرين لدى سيدك ففرقت عائلات، وأوحيت لسيد القصر بما لم يدر بذهني؟ ألم تتضاعف ثروتك مثنى وثلاث ورباع في سنوات حكم سيدك؟ ألم تمزق رسائل من مواطنين ظنوا أن الزعيم ملاذهم الأخير فلم تعرض عليه تلك المظالم؟ ألم تكن تعرف عن مذبحة ارتكبها رجال أمن زعيمك فترددت في نقل الخبر خشية غضبه عليك، وبدلا من ذلك وضعت أمامه مقالا عفنا برائحة النفاق يؤله فيه الكاتب الكبير جدا سيدك؟ تراجع المرافق، وسمع صوت الزعيم يطلب من مرافقيه العودة فورا خوفا من أن تنطلق قذائف الفضائح والجرائم من لسان إبليس فيتحول رمي الجمرات في اتجاهه. في ثوان معدودة كان الزعيم العربي قد اختفى في الزحام، وهنا شاهد إبليس وجها لم يكن يغيب عن ذهنه قط. كان صاحبه متجهما كأنه يستعد لدخول معركة، فناداه إبليس قائلا: لقد عدت للمرة الثانية تزاحم وتدفع بمنكبيك الضعاف ولم تتعلم من تجربة المرة السابقة عندما دهست بقدميك رجلا مسكينا سقط في زحام رمي الجمرات ، وذهب بك الظن أن الله سيقبل توبتك. ثم ارتفع صوت الشيطان قائلا له: حتى لو رجمتني لآخر يوم في عمرك مرة في كل عام فلن يقبل اللهُ حَجَك. ألم تكن تتلذذ في عملك الوظيفي بتعذيب المراجعين وهم يعودون إليك مرات كثيرة وأنت تتباطيء في انجاز أعمالهم؟ هل تتذكر المرأة الأرملة التي بكت أمامك بدموع غزيرة ترجوك انهاء معاملتها فهي في حاجة ماسة لمعاش زوجها المتوَفَى، وكانت الورقة أمامك لكنك رفضت توقيعها وطلبت منها أن تعود بعد عدة أيام امعانا في اذلالها؟ ألا تترك المرضى والمرهَقين والمسنّين أمام مكتبك ساعات طويلة تدّعي فيها أنك ذاهبٌ لأداء الصلاة، ثم تعود بعد وقت متكاسلا، وتنهي بفظاظة معاملات اثنين أو ثلاثة، ثم تطلب من الآخرين العودة في اليوم التالي، ولا تعرف أن صلاتك باطلة كحجِك تماما؟ تظاهر الرجل بأنه لم يسمع معظم كلام وعتاب وشتائم إبليس، واستعجل رمي الجمرات، واختفى في الزحام.
فجأة نظر الشيطان إلى الأرض خجلا، وحاول أن يتجنب التقاء عينيه بعيني رجل تبدو عليه ملامح الرقة المشوبة بسماحة، لكنه قرر أن يعترف للرجل بأنه اضعف منه بكثير ويستحق الرجم بيد هذا الورع التقي الذي كان عصيّا على الوسوسة، ورافضا لكل الاغراءات التي قدمها إبليس. قال له: قبل أن ترجمني دعني أعترف لك بأنك أجهدتني كثيرا، وأرهقتني بأكثر مما فعلتْ عصبةٌ من الرجال المؤمنين. كنتَ متسامحا مع الغير، رؤوفا بالضعفاء، رحيما بالمظلومين، لا ترى فارقا بين مسلم وغير مسلم فالله كرّم بني آدم كلهم. كنت تعمل بجد ومثابرة، وتحترم زوجتك، وتقضي وقتا كافيا مع أولادك، وتبرّ أسرتك، وتطيع ربك، وتناهض الظلم، وترفض النفاق، وتنجز أعمالك بضمير يقظ. كنتُ أخشاك، وأشعر أن لا فائدة من أن أوسوس لك، وأرى الآن مثلك الكثيرين جاءوا من كل فج عميق، يتوبون إلى الله، ويعقدون العزم على عدم طاعتي، ويحملون في صدورهم قلوبا مفعمة بالإيمان. لكن الحقيقة أنني لم أنهزم بعد، ولازلت عند وعدي لرب العزة عندما قلت: لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين. لقد حققتُ انتصارات باهرة في كل مكان، وأتباعي بمئات الملايين في العالم كله. أما في العالم العربي فلا يزال أنصاري أكثر وفاء واخلاصا وطاعة لي من أتباع الرسل والأنبياء. إن معظم الزعماء العرب أصدقاءٌ لي، يرتكبون الشر، ويملئون بطونهم بمال سحت من أفواه الفقراء، ويبتهجون بزيادة عدد المعتقلات، ويتلذذون بسحق هامة المواطن، ويتبرعون بمئة كذبة إن وسوست لأحدهم بكذبة واحدة. وفي العالم العربي ظلم، وكفيل، وحقوق إنسان ضائعة، واستغلال للضعفاء، وفقر مدقع، ونهب لخيرات الوطن، واستبداد القصر واسترقاق سيده لرعاياه. وفي العالم العربي مذابح وفتن طائفية وكراهية بين أصحاب الأديان المختلفة والطوائف المتفرقة والمذاهب والجماعات والأفكار والثقافات.وهنا لم يتحمل إبليس رمي ملايين الجمرات، واختلط في الزحام الخير بالشر، والصدق بالكذب، والأمانة بالرياء، وغاب ملك العصاة عن الوعي، وتطهر الصادقون، لكن الشيطان لم ينهزم بعد، ولا يزال حتى هذه اللحظة قادرا على تحقيق انتصارات ساحقة، خاصة في عالمنا العربي الممتد من السجن إلى السجن!
| |
|